هل دخول الجنة دون مسيس النار أمر صعب؟
الدكتور فهد صلاح
روى البخاري من حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة وغبرة فيقول له إبراهيم: ألم أقل لك: لا تعصني؟ فيقول له أبوه: فاليوم لا أعصيك. فيقول إبراهيم: يا رب إنك وعدتني ألا تخزني يوم يبعثون فأي خزي أخزى من أبي الأبعد فيقول الله تعالى: إني حرمت الجنة على الكافرين ثم يقال لإبراهيم: ما تحت رجليك؟ فينظر فإذا هو بذيخ(1) متلطخ فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار".
الآن يعرض آزر على ولده إبراهيم قبول ما كان ينفر منه طوال حياته، الآن بعدما حل ضيفا على النار فأكلت منه وذاق منها! الآن عرف آزر أن طلب ولده أمر سهل جدا، لا يقارن بهذا المصير الأبدي الذي استقر فيه.
فلماذا كان يستثقل آزر هذا الطلب في الدنيا؟ وهل هو فعلا أمر ثقيل أو مستحيل؟ لماذا يستصعب كثير من الناس اليوم طريق الجنة، ويرونه قفارا ومفازات وعرة؟ لماذا ييأس كثير من المسلمين أن يدخل الجنة قبل أن تمسه النار أولا؟ لقد وطن بعض الناس أنفسهم على ذلك مع الأسف، وقد يكون السبب في ذلك عائدا إلى الخطاب الوعظي الذي يكثر من حديث الخوف الذي تصل معه النفس إلى اليأس والقنوط، أو إلى الخطاب الصوفي الذي يصور أولياء الله في حالة من البذاذة والرثاثة لا يقبلها أحد في نفسه!
ولست الآن أفاضل بين الرجاء والخوف وأيهما يجدر به أن يكون الخطاب الأغلب في الدعوة، ولكني أعرض لأسباب دخول الجنة وموجباتها بمقاييسها الدقيقة لنرى هل أصبح دخول الجنة أمرا مستحيلا قبل مسيس النار؟
وقبل أن نعرض لذلك نستمع إلى رأي رجل سبر أغوار الشريعة في هذا الموضوع، روى الطبري بسنده عن أنس بن مالك، قال: لم نر مثل الذي بلغنا عن ربنا، لم نخرج له عن كل أهل ومال! ثم سكت هنيهة، ثم قال: والله لقد كلفنا ربنا أهون من ذلك! لقد تجاوز لنا عما دون الكبائر! فما لنا ولها؟ ثم تلا"إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه" الآية. (2)
الشكر على الواجبات
أداء الواجبات فقط سبب كاف لدخول الجنة
إذا كان الناس يقولون "لا شكر على واجب" فإن الشكر كل الشكر في شريعتنا على الواجب، والله عز وجل يعطي على الواجب ما لا يعطي على النافلة، وما تقرب عبد بشيء إلى الله بأحب مما فرض الله عليه، ففي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "...وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه.."(3) والله عز وجل لا يثيب على الواجب فحسب، لا بل إن الجنة تنال بإتيان الواجبات وحدها، فمن حافظ على الفرائض والواجبات – على قلتها- دخل الجنة، والأدلة على ذلك كثيرة متظاهرة:
- فعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-: أن رجلا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أرأيت إذا صليت المكتوبات، وصمت رمضان، وأحللت الحلال، وحرمت الحرام، ولم أزد على ذلك شيئا، أأدخل الجنة؟ قال: ((نعم)). رواه مسلم.
- وفي صحيح البخاري عن أبي أيوب: أن رجلا قال للنبي - صلى الله عليه وسلم-: أخبرني بعمل يدخلني الجنة، قال: "تعبد الله لا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم" وعند مسلم في رواية: فلما أدبر قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن تمسك بما أمر به، دخل الجنة".
فهل أداء الواجبات أمر صعب؟ هل أصبح الالتزام بالفرائض أمرا مستحيلا؟!
إن الله أناط هذه الواجبات بالقدرة، فمن عجز عن واجب سقط عنه، فلا تكليف إلا عن قدرة، ومن جميل لطف الله أنه لم يكلفهم إلا وسعهم، قال الله تعالى: " {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286].
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأعراف: 42].
الواجبات حسب القدرة
وإن نظرة سريعة على أركان الإسلام ترينا أن حتى هذه الأركان لا تفرض إلا عند وجود أسبابها، فالشهادة: خضوع واستسلام ونطق باللسان، والصلاة بحسب القدرة، والصيام بحسب القدرة، والزكاة على الأغنياء فقط، والحج لمن استطاع سبيلا.... وفي الحديث: "ما أمرتكم به؛ فأتوا منه ما استطعتم"(4).
وحتى الواجبات السياسية الكبرى التي تتعلق بالإنكار على الحكام، ومجابهة ظلمهم واستبدادهم وما يأتون من منكرات فإنها بحسب القدرة، ففي الحديث: "تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل"(5) فمن من الناس يعجز عن إنكار المنكر بقلبه!! ومن استطاع الإنكار باليد واللسان فهو مستطيع فأين العجز والاستحالة؟
ثم إن الله لا يعطي على الطاعة حسنة واحدة، بل يضاعفها ويزيدها ويباركها، يقول الله تعالى:مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ" [الأنعام/160].
ويقول تعالى: " {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ} [الشورى: 20].
ويقول سبحانه: {وَمَنْذ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ} [الشورى: 23].
وفي حديث ابن عباس في الصحيحين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله كتب الحسنات والسيئات: فمن هم بحسنة فلم يعملها، كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هم بعملها كتبها الله له عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، فإن هو هم بعملها كتبها الله له سيئة واحدة".
اجتناب الكبائر منجاة من النار
اجتناب الكبائر وحدها سبب كاف للنجاة من النار ودخول الجنة:
جاء في الآية الجامعة المفعمة بالأمل والرجاء: "إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا [النساء/31].
قال ابن كثير: أي إذا اجتنبتم كبائر الآثام التي نهيتم عنها كفرنا عنكم صغائر الذنوب وأدخلناكم الجنة!! ما أجمل هذه الآية وأرجاها، ليس أمام المسلم إلا أن يترك الكبائر لتكفر عنه الصغائر التي لا يسلم منها البشر ثم يدخل الجنة، صدق الله القائل: "إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا" [النساء/29].
ونستحضر هنا ما قاله أنس بن مالك: "لم نر مثل الذي بلغنا عن ربنا، لم نخرج له عن كل أهل ومال! ثم سكت هنيهة، ثم قال: والله لقد كلفنا ربنا أهون من ذلك! لقد تجاوز لنا عما دون الكبائر! فما لنا ولها؟ وانظر كيف اختار الله لفظ {نَّكْفُرَ}، ولم يقل "تكفر" ليستحضر الإنسان أن الله هو الذي يكفرها ويمحوها فيعظم الرجاء في واسع المغفرة سبحانه! والكبائر مهما قيل في تعريفها وحصرها فهي معدودة محصورة. فقيل: هي ثلاث، وقيل سبع، وقيل عشر، وقيل سبعون، وقيل غير ذلك.
الكبائر فقط من الذنوب هي التي تدخل النار
والكبائر على هذا تمنع دخول الجنة قبل التطهير حتى لو أديت الواجبات، روى أحمد من حديث عمرو بن مرة الجهني، قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله، شهدت أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، وصليت الخمس، وأديت زكاة مالي، وصمت شهر رمضان، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: (من مات على هذا، كان مع النبيين والصديقين يوم القيامة هكذا - ونصب أصبعيه - ما لم يعق والديه).
وقال الحسن للفرزدق: إن لـ ((لا إله إلا الله)) شروطا، فإياك وقذف المحصنة. وروي عنه أنه قال: هذا العمود، فأين الطنب، يعني: أن كلمة التوحيد عمود الفسطاط، ولكن لا يثبت الفسطاط بدون أطنابه، وهي فعل الواجبات، وترك المحرمات.
كفارة الكبائر
حتى الكبائر لها حل
وإنما تكون الكبائر موانع من دخول الجنة من حيث الأصل في حق من يموت دون أن يتوب منها، وأما من ارتكب الكبائر ثم تاب منها فإن الله يغفر الذنوب جميعا، قال الله تعالى: " قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر/53] وقال تعالى: وقال تعالى: (ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما) وقال تعالى بعد ذكر الشرك وقتل النفس والزنا: {إلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } [الفرقان: 70].
يقول العلامة ابن القيم: "فكل من تاب من أي ذنب كان: غُفِر له".
فهل بعد كل ذلك يمكن أن يقال: إن دخول الجنة دون مسيس النار أمر صعب، وما أجمل أن نختم بهذا الإشفاق على من غلبت عليه شقوته من المسلمين فدخل النار، يقول سيدنا علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- فيما روي عنه: ويل لمن غلبت آحاده عشراته! فقيل له: وكيف هذا؟فقال: أما سمعتم الله عز وجل يقول: "مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ [الأنعام/160]،فالحسنة الواحدة إذا عملها كتبت له عشرة، والسيئة الواحدةكتبت له واحدة. فنعوذ بالله ممن يرتكب فييوم واحد عشر سيئات، ولا تكون له حسنة واحدة، فتغلب حسناته سيئاته.
اللهم إنا نسألك الجنة من غير مناقشة حساب ولا سابقة عذاب.. آمين