بسم الله الرحمن الرحيم
علامات القبول بعد رمضان
د. محمود السيد داود
الأستاذ المشارك بجامعة البحرين وجامعة الأزهر
لأن يوفقنا الله عز وجل إلى العبادة فى رمضان، إلى الصيام فنصوم، وإلى القيام فنقوم، وإلى الصدقة فنبذل، وإلى القرآن فنتلوا، وإلى الاعتكاف فنعتكف وإلى العمرة فنعتمر، وإلى الأرحام فنصل وغير ذلك من ألوان القربات فتلك من أعظم نعم الله على عباده، ولأن يقبل الله عز وجل منا هذه الطاعات فيثيبنا عليها ولا يردها فى وجوهنا، ويرضى عنا بها فلا يصيبنا منه سخط، ويعتق بها رقابنا ورقاب آبائنا وأمهاتنا وأزواجنا وزرياتنا وإخواننا من النيران ولا نشقى بعد ذلك أبدا، فتلك النعمة العظمى والرحمة الكبرى والفضل الأعظم الذى يمكن أن يمتن الله به على عباده، ولعظم نعمة القبول عند الله عز وجل ومكانتها وفضلها، لا يعطاها أى أحد من الناس، ولا ينالها الإنسان على أى عبادة، لأن هناك عبادة مخدوشة بالرياء والنفاق وغيرهما، وعبادة صحيحة خالصة لله عز وجل، وقد جعل الله عز وجل نعمة القبول مقصورة على فئة خاصة من الناس، هم المتقون، الذين وصلوا إلى الغاية العظمى والهدف الأسمى من الصوم ( لعلكم تتقون )، وتلك هى القاعدة التى يقررها الله عز وجل فى قصة ابنى آدم قابيل وهابيل، فلقد قرب كل منهما قربانا، وقام كل منهما بالعمل، لكنه لم يرزق القبول إلا أحدهما فقط دون الآخر وفى ذلك يقول الله عز وجل : "وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ " المائدة 27 .
ولا شك أن هذه النعمة الخاصة " نعمة القبول " عند الله عز وجل، تستوجب على من أنعم الله بها عليه شكرا خاصا أيضا يناسب هذه النعمة العظيمة، ولعل هذا هو أحدا أسرار الإشارة إلى شعيرة الشكر بعد رمضان الواردة فى قوله تعالى: "وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ " البقرة من الآية 85 .ولقد تنبه لذلك وأشار إليه وهيب بن الورد رضى الله عنه حينما قال لأصحابه بعد أن صلى العيد : ( لإن أصبحتم مستيقنين بأن الله عز وجل قد تقبل منكم شهركم فقد وجب عليكم اليوم شكر ربكم ) .
والقبول وإن كان أمرا يرجع إلى الله عز وجل وحده وهو الأعلم به، ولا يستطيع أن يجزم به أحد، إلا أننا نستطيع أن نرصد له بعض العلامات التى تشير إليه وتدل عليه بعد رمضان، ومن هذه العلامات :
أولا : الاستمرار فى الطاعة، لأن الطاعة الخالصة لله عز وجل لها لذة خاصة بها، ومذاق لا يجده الإنسان إلا فيها، وبعيد أن يترك الإنسان هذه اللذة العظيمة بعد أن استساغها وجربها، واتصل بالله عز وجل عن طريقها، ولذا قالوا إن عظمة الطاعة الطاعة بعدها، كما أن من شؤم المعصية المعصية بعدها.
وإذا كان الإنسان قد بذل جهده فى رمضان للقرب من الله عز وجل والفوز برضاه، فإن ذلك يشجعه على أن يواصل الطريق وأن يستمر فى العبادة، ليتواصل معها رضا الله عز وجل، كالتاجر التى ينشط فى متجره وقت المواسم، التى تروج فيها التجارة، كمواسم الأعياد والمناسبات، ومواسم بدء الدراسة وغيرها ويصل من خلالها إلى الربح الوفير والكسب الجزيل، فإن هذه الأرباح والمكاسب تشجعه وتدفعه على الاستمرار بعد هذه المواسم فى التجارة، ولذا فإن التجار الرابحون بعد ذلك تغريهم هذه الرباح، فلا يغلفون محلاتهم ولا يتركون تجارتهم بل يزدادون نشاطا، ويتوسعون فى تجارتهم، وبالتالى تزداد أرباحهم وأموالهم، وهكذا كلما ازدادوا أرباحا كلما توسعوا فى تجارتهم ونشاطهم.
ثانيا: أن يتوافر لدى الإنسان قوة دفع ذاتية فى الطريق إلى الله عز وجل، فلا يحتاج الإنسان بعد هذا الشهر العملى والتدريب الرمضانى إلى محرك خارجى، أو إلى من يذكره بالطاعة والعبادة، لا يحتاج إلى من يقول له: الصلاة أو الصيام أو الصدقة أو القرآن أو غير ذلك مما مارسه وتدرب عليه فى رمضان، وبالتالى فإنه ينهض إليها بقوة دفع ذاتية، لأن بغيته فيها ولذته فى ممارستها، بل روحه وحياته الحقيقية فى أدائها.
وإذا كان المشركون فى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تتوافر لديهم قوة دفع ذاتية فى المعاصى والشرك ومحاربة الحق وأهله، فأولى بالمسلمين أن تتوافر عندهم نفس القوة وأكثر لممارسة الطاعة ومحاربة الباطل وأهله أيضا، أما قوة المشركين فإنى أمثل لها بما توافر عند ضمضم بن عمرو الغفارى لما بعثه أبو سفيان يستصرخ قريشا لإنقاذ قافلتهم التجارية قبيل غزوة بدر، لقد تحرك ضمضم بقوة دفع ذاتية لإنقاذ هذه القافلة، واستطاع أن يزعج البلدة قاطبة، فلقد وقف على بعيره بدافع ذاتى، وقد جدع أنفه وحول رحله، وشقق قميصه، وهو يقول : يا معشر قريش، اللطيمة، اللطيمة أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه، لا أرى أن تدركوها، الغوث . . . الغوث. وبذلك استطاع أن يحرك قريشا بأكملها، وكانوا بين خارج بنفسه أو باعث مكانه رجلا، وانطلق سواد مكة وهو يغلى لإنقاذ القافلة.
إن من أقبل على الله فى رمضان بالطاعة ، وأقبل الله عليه بعدها بالقبول، لا يمكن أن تكون قوة الدفع الذاتية عنده فى عمل الطاعات والقربات، وفى المسارعة إلى الخيرات والسباق إلى الجنات، أقل من قوة الدفع الذاتية التى تمتع بها ضمضم الغفارى .