حكم الاحتفال بالمولد النبوي الشريف في المسجد[28/02/2010][14:06 مكة المكرمة]
بقلم: د. أحمد عبد الهادي شاهين
إن مكانة النبي صلى الله عليه وسلم تتجدد دائمًا، وأبدًا في قلوبنا، وأرواحنا، ونفوسنا وعقولنا؛ لأنه أحيا أمةً من موات، وأيقظها من غفلة، وأفاقها من سكرة، فكان نورًا يضيء الطريق للسائرين، بما يرسل من أشعته الهادية، وأنواره الكاشفة، وكلماته المضيئة، فيحول الظلام نورًا، واليأس أملاً، قال تعالى: ﴿..... قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)﴾ (المائدة).
ومع قدوم شهر ربيع الأول من كل عام، يتسابق كثير من المسلمين إلى الاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم في صور شتى، منها تعليق الزينة، وصناعة الحلوى، ورفع الأعلام والبيارق، ودق الطبول والمعازف، والسير في موكب طويل يطوف بالقرى والمدن، يضم خليطًا من الرجال، والنساء والأطفال، وأصبح هذا الأمر مألوفًا لدى العوام. وهنا سؤال يطرح نفسه: ما موقف الشرع من الاحتفال بالمولد النبوي بهذه الصور السابقة؟.
انقسم العلماء إلى فريقين تجاه الاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم بهذه الصور السابقة؛ الفريق الأول: يرى أن الاحتفال بدعة، وأدلته في ذلك ما يأتي:
- أنه عمل لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة، ولا عن التابعين، ولا عن السلف الصالح، الذين هم خير القرون، ومن ثم فهو عمل غير مشروع؛ لأنه يُفعل كعبادة، وقربى إلى الله عز وجل دون دليل شرعي يسمح بذلك.
- أن ما يشتمل عليه الاحتفال من الصدقات، وأعمال البر في جمع الناس على الطعام، فهذا عمل مشروع في العيدين، وأيام التشريق، وليالي رمضان، ولم يرد نص بإضافة المولد إليها.
- أن ما يشتمل عليه الاحتفال من قراءة القرآن، ومدارسة العلم، فذلك من القربات إذا أقيم على الوجه الشرعي المطلوب، دون تخصيص ذلك بمناسبة المولد، وفي يوم ثابت، ومعين كل عام.
- أن ما يشتمل عليه الاحتفال من بعض المفاسد الظاهرة، مثل انتهاك حرمات المساجد، والاختلاط الذي يؤدي إلى المزاحمة، والتبرج الصارخ من الناس، واستعمال الأغاني، وأدوات اللهو، والطرب، وشرب الدخان في مجالس القرآن والذكر، وإقامة حلقات الذكر المحرف، مع التمايل، والرقص بالمسجد، بالإضافة إلى الإفراط في السهر إلى ما بعد منتصف الليل.
اختلاط هذه الأمور- التي يصل بعضها إلى التحريم- بالاحتفال بالمولد النبوي الشريف؛ دفع هذا الفريق إلى عدم جواز الاحتفال بهذه الصورة، وأن ذلك لون من البدع التي يجب إنكارها.
أما الفريق الثاني: وهم القائلون بجواز الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، مع بعض الضوابط، والشروط الهامة، فقد ردوا على الفريق الأول بما يأتي:
1- نعم لم يرد نص عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة ولا عن السلف الصالح بالاحتفال بمولده، وأيضًا لم يرد نص عنهم جميعًا بالمنع، ومن ثمَّ فهو أمر متروك للمصلحة المترتبة على ذلك، خاصة إذا اعتبرنا أن الاحتفال يقصد به التذكير بالسيرة العطرة، وأخلاقه العظيمة، وغزواته، وانتصاراته، والناس يجهلون من السيرة أكثر مما يعرفون، والقرآن الكريم أشار إلى التذكير في آيات كثيرة، مثل قوله تعالى: ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55)﴾ (الذاريات). وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ﴾ (المائدة: من الآية 11). وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9)﴾ (الأحزاب).
2- وأما ما يشتمل عليه الاحتفال من ألوان العبادة، مثل قراءة القرآن، ومدارسة العلم، وتعظيم النبي صلى الله عليه وسلم والثناء عليه، وإطعام الفقراء، والتصدق على المساكين، فكلها أمور مندوبة ومستحبة، وغير مرتبطة بأيام معينة من العام.
وأما ما يقع في الاحتفال بالمولد من المفاسد المحرمة، مثل انتهاك حرمات المساجد، والاختلاط، والفسوق، والتبرج، واستخدام الغناء، وأدوات اللهو والطرب، وشرب الدخان، وغير ذلك من المحرمات أثناء قراءة القرآن الكريم، أو إقامة حلقات الذكر بصورة غير مشروعة، فلا شك أن هذه أمور محرمة، لا نُقر من يفعلها، بل إن هذه المعاصي تجب محاربتها عمومًا، وإضافتها إلى الاحتفال بالمولد لا يضفي عليها الشرعية أو القبول، ومن ثم فهم يرفضون الاحتفال بالمولد إذا ضم هذه المفاسد المحرمة.
يقول الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الأزهر سابقًا: (وهناك أمور يعرض لها أن تكون بدعة، وأن لا تكون بدعة، مثل الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، إذا فعلت هذه الأشياء على أنها عبادة، وتدين كانت بدعة؛ لأنها إحداث عبادة لم تكن... أما إذا فعلت على سبيل العادة، وعلى أن الاحتفال بالمولد إحياء لذكريات عزيزة كانت سببًا للخير، وموجبة للشكر، لتنبعث نفس المؤدي لها إلى التمسك بالهدى، وبالخلق الكريم، لم تكن بدعة؛ لأنه لم يقصد بها التدين، ولم يرد إحداث شيء في الدين، لكن إذا حفت هذه المحدثات- التي ليست بدعةً- بما هو بدعة، وبما هو مخالف للشريعة، حرمت لما هو ملابس لها من البدع، ولما هو ملابس لها من المعاصي) (1).
ومن خلال عرض ما سبق أجدني أميل إلى أن الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، إذا أخذ صورة مجلس علم، في مسجد ما، مع المحافظة على أدبه ووقاره، دون الارتباط بيوم معين ثابت كل عام، وقام أحد العلماء أو بعضهم، بتذكير المسلمين بواجباتهم نحو النبي صلى الله عليه وسلم فلا مانع، مع ضرورة تذكير المسلمين في هذه المناسبة بما يأتي:-
1- التأسي به صلى الله عليه وسلم والاقتداء بأفعاله، واتباع سنته، والتمسك بهديه، والتخلق بأخلاقه صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)﴾ (الأحزاب). وقال تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)﴾ (القلم).
2- أن يملأ المسلم قلبه بحب الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن ذلك من كمال الإيمان، والمرء مع من أحب يوم القيامة، وفي الحديث "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من أهله وماله والناس أجمعين" (2).
حب النبي عزة وجاه وشرعه تعلو به الجباه
فالله قد صفاه واصطفاه لسنا نرى إلا الذي يراه
3- أن يكثر المسلم من الصلاة والتسليم عليه صلى الله عليه وسلم لما في ذلك من الثواب العظيم، والمؤانسة له صلى الله عليه وسلم في قبره، وفي صحيح مسلم: "من صلى علي واحدة، صلى الله عليه عشرًا" (3)، وفي سنن أبي داود بسند جيد "من صلى علي، رد الله على روحي، فأراد عليه السلام" (4).
وفي يوم ما صعد رسول الله- صلى الله عليه وسلم المنبر- فلما رقى عتبة قال آمين، ثم رقى أخرى فقال آمين، ثم رقى عتبة ثالثة فقال آمين، ثم قال "أتاني جبريل- عليه السلام- فقال يا محمد: من أدرك رمضان فلم يغفر له فأبعده الله، فقلت آمين، قال ومن أدرك والديه أو أحدهما فدخل النار فأبعده الله، فقلت آمين، قال ومن ذكرت عنده فلم يصل عليك فأبعده الله، فقلت آمين" (5).
ومما سبق يتبين أن الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، هو من الأمور التي لم يرد فيها نص بالفعل أو الترك، وينظر في ذلك إلى المفاسد، والمصالح التي تترتب على طريقة الاحتفال، فهي التي تحدد مدى قبوله من رفضه.. والله تعالى أعلم.
-----------------------
(1) ليس من الإسلام الشيخ محمد الغزالي صـ252 ط/ مكتبة وهبة السادسة 1411هـ 1991م.
(2) الحديث أخرجه الإمام البخاري (13). عن أنس بن مالك- رضي الله عنه-.
(3) الحديث أخرجه الإمام مسلم (408). عن أبي هريرة- رضي الله عنه-.
(4) الحديث أخرجه الإمام أبو داود (2041). عن أبي هريرة- رضي الله عنه-.
(5) الحديث ذكره الإمام المنذري في الترغيب والترهيب 2/114 عن جد الحسن بن مالك بن الحويرث- رضي الله عنهم-. (إسناده صحيح أو حسن).
-------------
* أستاذ الدعوة والثقافة الإسلامية- جامعة الأزهر
منقول من موقع الخوان المسلمين (اخوان اون لاين)